قبل أن نتطرق إلى
إشكاليات الإعلام في ظل العولمة من خلال بعض الفرضيات، يجب أن نقف
قليلا عند مفهوم العولمة. لا نعتقد أن هناك مفهوم معاصر أستخدم في مطلع
هذا القرن استخدامات متعددة ومتنوعة مثل العولمة. لقد أصبح هذا المصطلح
ملاذا للصحافيين والاقتصاديين والسياسيين يحتمون به عندما يسعون لشرح
الظواهر المعقدة والمتشابكة: يحمل، تارة، هذا المفهوم بمضامين يعجز عن
حملها، و يفرغ، طورا، من محتواه ويصبح لا يعني شيئا.
هكذا نجد أن العولمة هي
سبب الازدهار هنا، وسبب البؤس هناك حيث ينسب لها تزايد الإنتاج في هذه
المنطقة وانخفاضه في تلك. يحملونها مسؤولية استشراء ظاهرة البطالة في
هذه الدولة و ينسبون إليها الانطلاقة الاقتصادية التي تعيشها تلك
الدولة، والتي أدت امتصاص عددا لا يستهان به من البطالين
كما يراها البعض
وراء انخفاض الأجور في هذه المنطقة من الكرة الأرضية وارتفاعها في تلك
المنطقة!
إن مصدر العولمة
اقتصادي أسهمت فيه جملة من العوامل، وتجلت تأثيراتها في العديد من
المجالات: السياسي والدبلوماسي والقانوني والاجتماعي والثقافي.نظرا لأن
مصدر العولمة اقتصادي فقد استخدمت العديد من المصطلحات التي تسعى إلى
رصد هذه الظاهرة الجديدة وتشخيصها: منها التدويل
Internationalization،
والشمولية أو الكليانية (
Globalization)
، و ما فوق الجنسيات أو تعدد الجنسيات (multinationalization)
نعتقد
أن هذه المصطلحات والمفاهيم لا تغطي كلها الواقع الذي يدل عليه مفهوم
العولمة بمختلف تجلياته
إن تدويل
الاقتصاد يدل على تطور التبادل للمواد الأولية وللسلع وللخدمات والنقد
تحت المراقبة المطلقة للدولة على المستويات التالية: السياسة المالية،
سياسة الضرائب والرسوم والجمركة، وغيرها...) أما المافوق الجنسيات أو
القوميات فهي ظاهرة " منطقية" لتطور الشركات والمؤسسات الرأسمالية
ولتوسعها العمودي والأفقي بحيث يتعدى أكثر من منطقة وذلك من خلال إقامة
فروع لها في العديد من الدول وما ينجر عنه من تحويل مراكز الإنتاج
والتوزيع ورؤوس الأموال والتكنولوجيات
أما العولمة فهي
ظاهرة معقدة تقوم على التبعية الشديدة والمركزة للمستهلكين والمنتجين
والممونين والممولين والموظفين العموميين في مختلف البلدان.
يعتقد البعض أن العولمة
هي ظاهرة قديمة ولدت مع تطور الرأسمالية في القرن 19
ويستندون في ذلك إلى ما ذهب إليه العالم الاقتصادي البريطاني ، " جفونس"
وأتباعه(1).
إن العولمة ظاهرة حديثة
تشكل مرحلة متقدمة من النظام الرأسمالي الذي اصبح نظاما كونيا بعد
سيادة الرأسمالية المركنتية ( 1870-1850 )
والتنافسية ( 1850-1890) والاحتكارية
(1896- 1980) إن العولمة لا يمكن اختصارها في البعد الاقتصادي
والمالي، لأن تداعياتها وتأثيراتها امتدت إلى المستويات التالية:
- المستوى السياسي: إن
التأثير الأكثر وضوحا للعولمة في هذا المستوى يتمثل في التوجه "
لتقويض" السيادة الوطنية للدول، وإعادة النظر في مفهوم الدولة
الكلاسيكي من خلال " إعفاء" الدولة الوطنية من بعض الصلاحيات أو "
تحجيم" دورها في بعض الميادين ودفعها للامتثال والتماهي مع نموذج كوني
في مجال التنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
- المستوى القانوني:
السعي لتوحيد التشريعات القانونية في العديد من المجالات الحيوية خاصة
في المجال التجاري والجمركي والضريبي، خاصة بعد السعي لتوحيد العملات
النقدية ( في المجموعة الأوروبية مثلا).
- المستوى الثقافي:
السعي " لتذويب" الثقافة المحلية أو الوطنية رغم المقاومات التي تظهر
هنا وهناك والتي تكتسي، في الكثير من الحالات، طابعا عنيفا. يمكن
الاعتراف بأن المستوى الثقافي أصبح يشكل مجالا لمقاومة العولمة وذلك
باعتبار أن الثقافة تشكل أرضية للتمايز والتباين. ألم تعرف الثقافة
بأنها مصنع للاختلاف؟
إن الثقافة التي سادت
منذ 3500 سنة قبل ميلاد المسيح كانت مرتبطة بالمكان أو بموطن محدد. أما
الثقافة الكونية التي بدأت ملامحها في البروز فهي غير مرتبطة بمكان
معين أو بموطن محدد. إنها ثقافة الشبكات والوصلات الإلكترونية. ثقافة
المكان الواحد الممتد والزمن الشامل أو الزمن الواحد.
إن العولمة لا يمكن
فصلها عن أدوات الاتصال والتواصل. فمنذ ظهور التلغراف في 1793 إلى
انترنيت في التسعينيات من القرن الماضي والبشرية تتبادل الأخبار،
والمعلومات، والبضائع، والسلع المادية والرمزية، والخدمات والقيم،
بسرعة متزايدة. إذا كان لوسائل الاتصال الفردية والجماهيرية دور أساسي
في امتداد تداعيات العولمة في الميادين المذكورة أعلاه، فما هو تأثير
العولمة في الإعلام؟ هل يكمن في تغيير طبيعة الإعلام؟ هل يكمن في
مضمونه؟ هل يكمن في رؤيته للجمهور؟ هل يكمن في تغيير طبيعة المؤسسة
الإعلامية؟
قبل التفكير في الإجابة
على هذه الأسئلة التي نفضل صياغتها في شكل فرضيات يمكن التأكيد على ما
يلي:
من الصعوبة بمكان الفصل
التعسفي بين الأداة التكنولوجية والمضمون الذي تحمله. فكل أداة
تكنولوجية جديدة تسعى لتلبية حاجات اجتماعية وثقافية مختلفة عن تلك
التي سبقت، وتحمل مضامين غير محايدة ومختلفة.
الفرضية الأولى: مظاهر التغيير في الوسيلة الإعلامية
لعل المظهر البارز في
الإعلام في عصر العولمة يكمن في الوسيلة. إن ظهور آلة الروتاتيف في
طباعة الصحف، وميلاد صحافة البنس أو الصحافة الصفراء أو الصحافة
الشعبية بدءا من 1880، والدخول القوي للإعلان
كممول أساسي للصحف، وانتشار التعليم وانتقاله إلى تعليم مدني وإلزامي
وإجباري، وبروز " المجتمع الجماهيري"، كلها عوامل شجعت الباحثين على
نعت الصحافة بالجماهيرية. لقد تعززت هذه الصفة بعد ظهور الإذاعة في
العشرينيات والتلفزيون في الخمسينيات. لكن يلاحظ أنه في ظل العولمة
بدأت مكانة وسائل الاتصال الفردية في التزايد، بشكل متفاوت من مجتمع
إلى أخر، بدءا من " الولكمان" في نهاية السبعينيات، إلى ظهور جهاز
الكمبيوتر الذي أصبح خير دليل على فردانية الوسيلة. إذ أنه يسمح
بالاستهلاك الفردي للمضامين الثقافية والإعلامية، مثل متابعة برامج
التلفزيون عبر شاشة الكمبيوتر.
الفرضية الثانية: التوجه نحو القنوات المتخصصة
رافق بروز العولمة
التوجه نحو إنشاء محطات إذاعية وقنوات التلفزيونية متخصصة بدءا من
الثمانينات. إن هذه المحطات والقنوات لا توجه موادها إلى جمهور أفقي،
بل تتجه إلى جمهور عمودي موجود بفعل وشائج الاهتمام، الهواية، المهنة،
التخصص. هكذا برزت قنوات تلفزيونية تاريخية، وأخرى رياضية، وأخرى علمية
أو سينمائية، وغيرها من القنوات المتخصصة. إن التزايد الكبير في عدد
القنوات زعزع مكانة القنوات الإعلامية السابقة التي كانت تتسم بالطابع
العام. هذا الأمر لا يتجلى في تناقص عدد جمهور هذه القنوات ومتتبعيها
فقط، بل أدى إلى إعادة النظر في هذا الجمهور حيث لم تعد البرمجة
الإذاعية والتلفزيونية تخاطب الجمهور كأمة، أو كشعب واحد وموحد وراء
أهداف، ومثل، وقيم، وتجارب اجتماعية وعاطفية في عصر العولمة التي بدأت
تقوض سلطة وصلاحية " الدولة الوطنية"، بل أصبحت تخاطبه كفئات اجتماعية
ومتباينة: برامج للنساء في البيت في الفترة الصباحية، وبرامج للأطفال
في المساء بعد العودة من المدرسة، برامج للأباء بعد عودتهم إلى البيت
ربما يعتقد
البعض أن التغيرات التي طرأت على البرمجة التلفزيونية في القنوات
التلفزيونية يتعلق بإيقاع الحياة الاجتماعية المحلية أكثر من التأثيرات
الكونية للعولمة. رغم أن للمنافسة بين القنوات التلفزيونية على الصعيد
الدولي كلمتها في مجال البرمجة التلفزيونية على صعيد القنوات المحلية،
إلا أنه يلاحظ أن موقع الجمهور قد تغير في المعادلة الإعلامية الحديثة
التي تقيمها التكنولوجيات الجديدة، حيث أصبح طرفا مشاركا فيها. لم يعد
يطلق على الجمهور تسمية القارئ أو المشاهد أو المستمع، بل أصبح يسمى"
المستخدم" User
نتيجة منطق " التفاعلية" (
Interactivity
) الذي فرضته التكنولوجيات الحديثة أو التطورات التكنولوجية
التي أدخلت على وسائل الاتصال القديمة.
الفرضية الثالثة: التوجه نحو القنوات الخاصة
لقد كان الحديث عن
النموذج الإذاعي والتلفزيوني الناجح في عقد الخمسينيات والستينيات
يقترن بهيئة الإذاعة البريطانية (BBC)،و(RTF
) الفرنسية، و(RAI
) الرأي الإيطالية، وغيرها من القنوات التابعة للقطاع العام أو
قطاع الدولة. النموذج الناجح في التسعينيات أصبح يرتبط أكثر بقناة سي
آن آن (
(CNN
و" قناة الجزيرة". بالطبع إن هذه القنوات متخصصة في الإعلام لكن بعض
القنوات التلفزيونية الخاصة الأخرى غير الإعلامية مثل قناة
C+
الفرنسية أصبحت هي الأخرى نموذجا يحتذى به في الدول الأوروبية. لم
تتحول هذه القنوات إلى مرجع للقنوات التجارية أو الخاصة فقط بل أصبحت
نموذجا للقنوات الناجحة.
يستنتج مما سبق أن
النجاح الإذاعي أو التلفزيوني في عصر العولمة لا يقاس بالقيمة المضافة
في المجال الثقافي والمعرفي، وبالمنفعة الاجتماعية، بل يقاس بالعائد
التجاري. هذه الحقيقة جعلت القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية
التابعة للقطاع العام تخوض رهان وجودها، إذ أجبرت على محاذاة القنوات
التابعة للقطاع الخاص في تمويلها: أي البحث عن مصادر التمويل في قطاع
الإعلان. بهذا نلاحظ أن برامج القنوات العامة أصبح تتماهى مع برامج
القنوات الخاصة مما دفع بعض الباحثين إلى التساؤل عن الجدوى من القنوات
التلفزيونية العمومية في أوروبا الليبرالية. هذا التغيير لا يمكن في
اعتقادنا أن يفهم إذا ابتعدنا عن إشكالية الدولة الوطنية، وإعادة النظر
في طبيعتها وفي وظيفتها في ظل العولمة بإمداداتها المختلفة في المجال
الثقافي والإعلامي والاقتصادي. ولا تتجلى صورة هذا التغيير إذا
استبعدنا عملية إعادة هيكلة الاقتصاد الدولي من خلال عملية اندماج
الشركات المنتجة للإعلام، والثقافة، والترفيه، والتسلية، وقطاعات
تجارية ومالية واقتصادية أخرى.
الفرضية الرابعة: التوجه نحو " تسليع" الثقافة والإعلام
إن " تسليع الثقافة"
مسألة قديمة طرحتها مدرسة فرانكفورت منذ الأربعينيات، وشكلت مدخلا لنقد
" الثقافة الجماهيرية" أو إدانتها. نعتقد أن هذا النقد أو الإدانة كانت
تنطلق من الرفض الضمني لفكرة تصنيع الثقافة التي تسلب منها كل تجارب
أصيلة ومتميزة أكثر من استنادها لرفض نمط الإنتاج الرأسمالي للثقافة.
أعتقد أن الجديد في هذه المسألة الذي ندرجه في هذه الفرضية يتمثل فيما
يلي:
- أن إرادة " تسليع"
المواد الثقافية لم تأت نتيجة للتطور المنطقي لنمط الإنتاج السائد في
هذا البلد أو ذاك فقط، بل بدأت تفرضه تلك الإرادة السياسية التي تمارس
الضغوط على المنظمات مثل المنظمة العالمية للتجارة وعلى الدول لفرض
قوانين السوق على الأفلام السينمائية، وبرامج التلفزيون، والصور،
والأشرطة السينمائية. لقد استهجنت الكثير من الأوساط هذه الضغوط وسعت
وتسعى لمقاومتها، خاصة تلك التي تحمل حنين للماضي الذي يربط بين
الثقافة والخدمة العمومية. الحنين المشبع بالرؤية الطوباوية التي تجمع
بين الثقافة والتحرر أو التي تخشى على مستقبل المواد الثقافية"
الوطنية" جراء إخضاعها عنوة لقوانين السوق.
- إن" تسليع" الإعلام
الذي بدأ نتيجة ميلاد وكالات الأنباء العالمية، وتدويل الصورة
التلفزيونية بدءا من الخمسينيات، قد تعمق بشكل لا نظير له على المستوى
القاعدي وفق بعدين أساسيين:
البعد الأول: الإجماع
شبه التام بدور الإعلان في تمويل المؤسسة الإعلامية المعاصرة حتى تلك
التابعة للقطاع العام والتي تضطلع بدور الخدمة العمومية. هذا الإجماع
لا يخفي التفاوت النسبي في إسهام الإعلان في تمويل مختلف وسائل الإعلام
المختلفة ( صحيفة، إذاعة، تلفزيون) لكنه يضعف الإرادة السياسية في
تقنين الإعلان والحد من تأثيره السلبي في مضمون المادة الإعلامية وفي
بنيتها وفي شكل تقديمها. ألم تندثر العديد من وسائل الإعلام في الدول
التي تحكمها قوانين الطلب والعرض الصارمة نتيجة عجزها على جذب
المعلنين؟
البعد الثاني: لقد سمحت
التكنولوجيا الحديثة في محو الحاجز الفاصل بين الإعلان والإعلام، ففي
شاشة الكمبيوتر يتعايش النص الإعلاني بجانب النص الإعلامي، ونرى أن
المادة الإعلامية لا توجد سوى لمرافقة المادة الإعلانية المتحركة في
الشاشة المذكورة، وهذا ما أدى إلى الإجهاز على كل الجهود الثقافية
والقانونية التي بذلت للفصل بينهما منذ أزيد من قرن. فمن باب الحرص على
احترام حق الجمهور في الإعلام والمعرفة ولحمايته من التضليل، الذي يمكن
أن يمارسه " القفز" المفاجئ من الإعلام الذي يمثل الواقع إلى الإعلان
الذي يحمل قدرا من الخيال أو التحايل على الواقع، كان الإلحاح القانوني
على إخطار الجمهور بأن هذا إعلان وذاك إعلام. ليس هذا فحسب، فالعديد من
الدول فرضت سقفا معينا على نشر الإعلانات أو بثها.
الفرضية الخامسة: التداخل بين الترفيه والإعلام والثقافة
أصبح من الصعوبة بمكان
الفصل بين المجالات التالية: الإعلام، الترفيه، الثقافة. لقد أصبح
التعليم والتثقيف يقدم عبر الشاشة الصغيرة في قالب ترفيهي ولهوي يشجع
من هم خارج الركح التلفزيوني على الالتحاق بالبرامج من خلال استخدام
الهاتف أو شبكة الانترنيت. كما أن " صفحة الواب" قد وفرت للمستخدم
القيام بعدة أشياء في الوقت ذاته، كان القيام بها يتم بشكل منفصل منذ
حوالي قرن من الزمن : قراءة أخر الأخبار، الاستماع إلى الموسيقى أو إلى
برامج الإذاعة، والبحث في الموسوعة عن مصطلح أو مفهوم، والمشاركة في
لعبة اليانصيب
إذا كان إسهام
تكنولوجيات وسائل الاتصال الحديثة واضحا، ومؤكدا، في محو الفاصل بين
هذه المجالات الثلاثة الذي كان سميكا في الستينيات والسبعينيات، فإنه
لا يمكن إبعاد انعكاسات الاندماج في نشاطات الشركات الصناعية المختلفة
في قطاعات غير متجانسة: نشر الصحف، الإنتاج الإعلاني، صناعة برامج
تلفزيونية عامة أو تربوية، شركات البث التلفزيوني، صناعة الموسيقى
والغناء، صناعة برامج الكمبيوتر ذات الأغراض المختلفة. والأكثر من هذا
التداخل بين صناعة الإعلام الآلي والبريد والاتصالات وصناعة المعرفة
والثقافة.يرى البعض أن التداخل المذكور هو من صنع عملية " تتجير" (
تحويلها إلى تجارة) الثقافة والترفيه والإعلام وتحويلهم إلى سلعة تلهث
وراء " مثيولوجية" الجمهور العريض الذي فقد عرشه في زمن تضافرت فيه
الأسباب " لتفتيته"، وتوفرت الشروط لازدهار الاتصال الشخصي أمام "
تضعضع" المكانة المهيمنة للاتصال الجماهيري.
الفرضية السادسة: بين الاتصال والإعلام
في رصده للتحول الذي
يشاهده عالم الاتصال، خاصة المرئي منه، استخلص الباحث الفرنسي دانيل
بونيو إننا نعيش مرحلة الاتصال ضد الإعلام (2)
سنة 1992 لعل هذه المقولة توحي بضرورة إعادة
النظر في مفهومنا للإعلام والاتصال ليس لتحريرهما من كل وهم، كأن نربط
بين الاتصال والتفاهم، والإعلام والتحرر، بل للتأكيد على تطور الرؤية
للإعلام والاتصال في ظل العولمة. لقد كنا نعتقد أن الإعلام يلازم
الاتصال، ولا يوجد إعلام بدون اتصال، وحتى أن مؤرخي وسائل الإعلام
يؤكدون على أن القرنين السابقين كنا قرن الإعلام حيث ازدهرت صحف الرأي،
و وسائل الإعلام ذات الطابع الإخباري: الإذاعة والتلفزيون وأواخر القرن
الماضي، أي في زمن الاتصال
إن النقل
التلفزيوني المباشر لا يسعى لتقديم الإعلام بل يعمل على تغليب الاتصال،
فهو يقدم لنا الإحساس وينفخ فينا عاطفة المشاركة واللقاء. لذا نلاحظ
غلبة الفرجة في الإعلام المرئي. العديد من المواد الإخبارية
التلفزيونية: روبرتاجات تلفزيونية، أفلام وثائقية، جرائد إخبارية، كلها
أصبحت قطعة من الاستعراض والتمشهد،أي أن إنتاجها وتقديمها يخضع لمعايير
الإنتاج الدرامي. وهذا ما يقلص الهامش بين ما هو واقعي وغير الواقعي أو
الخيالي في وسائل الإعلام- سنعود إلى هذا النقطة في افتراض أخر- هذا
إضافة إلى أن الحوارات الإذاعية والتلفزيونية أصبحت أقرب إلى الكلام
الاستعراض Talk
show.إن
غلبة الاتصال في عصر العولمة هو،في حقيقة الأمر، غلبة الشكل وهذا ما
يجرنا إلى مراجعة فهمنا للعلاقة بين الشكل والمحتوى. إن القرن الماضي
الذي كان قرن الإعلام قد ترك أرثا كبيرا في مجال " سينما المخرج" و"
صحافة الرأي" والمنابر الفكرية في البرامج الإذاعية والتلفزيونية، أما
عصر الاتصال فقد أبرز الجانب المبهرج المغري بالمؤثرات الصوتية
والمرئية، والحيل البصرية التي أصبحت تشكل قيمة في حد ذاتها. إنها
طريقة خطف البصر وتحويله إلى الاهتمام بالشكل على حساب المحتوى. في ظل
هذا التحول " ترعرت" ما يطلق عليها الباحث الفرنسي" دانيل بونيو" (
إيديولوجية الاتصال) والتي تتمثل في المقولة التالية: المهم هو أن نتصل
(3). لا يهم مضمون الاتصال ومحتوى التبادل، المهم هو أن نتبادل فقط.
المهم أن نتصل: نتبادل الانطباعات والمشاعر الفعلية أو المفتعلة التي
يمكن أن يخلقها الشكل وليس المضمون.
الفرضية السابعة: الإعلام وعواقب السرعة
إن المظهر الأساسي
لتطور الإعلام والأكثر بروزا في حياتنا المعاصرة هو السرعة: سرعة تدفق
الأخبار والمعلومات وتدولها: عندما اغتيل الرئيس الأمريكي " أبرهام
لنكون" في أبريل سنة 1865 استغرق خبر مقتله ستة أشهر حتى يعم الولايات
المتحدة الأمريكية وحدها، وعندما اغتيل الرئيس الأمريكي في 1963 وصل
خبر مقتله إلى جل الأمريكيين خلال الساعة التي تم فيها، أما عندما تم
تنفيذ حكم الإعدام في الرئيس الروماني نيكولا شوشيسكو في ديسمبر
1989 فقد علم الشعب بالخبر في الدقيقة التي حدث
فيها بفضل البث التلفزيوني المباشر (4) وعندما تمت محاصرة مجلس الدوما
الروسي للإطاحة بالرئيس الروسي السابق " إلتسين" علم مستخدمو الانترنيت
بالحدث في الثانية ذاتها! لقد أصبح الإعلام يملك سرعة الانترنيت على حد
تعبير صحافيي الصحيفة الفرنسية "
Le monde Diplomatique
“. إن هذا القول لا يعني بأن شبكة الانترنيت أصبحت أداة خطيرة وفاعلة
في مجال نقل الأخبار والأحداث، بل أن وسائل الإعلام المختلفة: الإذاعة،
والتلفزة، وحتى طبعات الصحافة الإلكترونية أصبحت تمتثل أكثر لمتطلبات
السرعة والآنية
إن سرعة تقديم الأخبار
عبر وسائل الإعلام والذي كان وسيلة لنقل الأخبار ولتمكين الجمهور من
الاطلاع على التطورات والمستجدات في الخمسينيات والستينيات من القرن
الماضي تحول في مطلع الألفية الحالية إلى غاية في حد ذاتها. غاية تكتنز
إيديولوجية تقديس السرعة، وتختزل الحدث الصحفي في اللحظة الراهنة وراء
اللهث الذي يجافي التاريخ أو يحجمه في تسابق شديد للحاق بالمستقبل، دون
التوقف المتبصر عند الحاضر. هكذا تظهر السرعة والآنية كرهينة للتطورات
التي تجري في العالم وكأنها إفرازات جديدة وآنية ومنفصلة عن الأحداث
وغير مرتبطة بماض.إن النجاح في المجال الإخباري والإعلامي أصبح يقاس في
الغالب بالسرعة وبالمقدرة على تجاوز ما هو راهن وليس بمدى ارتباطه
بالواقع أو ببنائه الفكري
لقد عبر الكثير
من الباحثين (5) عن خشيتهم من التأثير السلبي لهذه السرعة على دقة
الأخبار وموضوعيتها وخوفهم من تأثيرها على الجمهور
.بدل
الوقوف على ما يجرى وتفاعلاته في الساحة العسكرية والسياسية تدافعت
العديد من القنوات التلفزيونية التي غطت " أحداث أفغانستان" إلى القفز
على الواقع الشحيح بمعلوماته في محاولة استشفاف المستقبل عبر الأسئلة
التي توجه إلى المراسلين الصحفيين و الخبراء، والتي نذكر منها ما يلي:
كيف سيكون رد الفعل ؟ وما هي توقعاتكم بخصوص...؟ كيف ترون الوضع
بعد...؟
إن
خطر السرعة تكمن في نظرنا في مستويين، وهما:
1- جميع المهنيين
والمختصين يدركون جيدا أن الأخبار هي مواد شديدة التلف وأن حياة قيمتها
الإخبارية قصيرة جدا. إن إيديولوجية تقديس السرعة يختصر أكثر عمر
الأخبار وذلك من خلال فرض المعادلة التالية التي لم تثبت صحتها: سرعة
تدفق الأخبار تساوي ارتفاع إيقاع استهلاكها. الإمعان في هذه الفرضية
يدفعنا إلى طرح المستوى الثاني من هذه الإشكالية.
2- إن سرعة تدفق
الأخبار طرح مشكلا جديدا على البشرية لخصه الباحث الكندي " بسكال
لابونت" فيما يلي (6) : ( ظلت التكنولوجية منذ 300 ألف سنة وسيلة لدعم
الثقافة وتطويرها (...) لكن منذ منتصف القرن العشرين هناك شيء ما تغير
لقد بدأنا ننتج بسرعة أكثر من طاقتنا على الهضم. لم يحدث هذا من قبل
أبدا. النتيجة أننا نبلع أكثر فأكثر الإعلام وبسرعة متزايدة). نعتقد أن
الإشكال الذي طرح منذ التسعينيات من القرن الماضي ليس محصورا في عدم
المقدرة على هضم الإعلام الذي يصلنا بل يتعداه إلى عدم القدرة على بلع
كل الأخبار المنتجة، أي متابعة إيقاع تدفق الأخبار بالسرعة التي تبعث
على " الدوخة"، وهذا رغم محركات البحث عن المواقع في شبكة الانترنيت،
ورغم وجود "مغربلات الأخبار والمعطيات في شبكة الانترنيت. ربما ستتضح
خطورة السرعة في نقل الإعلام وتداوله من خلال الفرضية الثامنة.
الفرضية الثامنة: التغيير في طبيعة الإعلام
لقد تغير مفهوم الإعلام
وطبيعته في عصر العولمة حيث لم يعد مرتبطا بمخرجات وسائل الاتصال
الجماهيري بل أصبح شديد الالتصاق بالمعلومات: المالية، والعلمية،
والتكنولوجية، والطبية، والرياضية، والثقافية، والاجتماعية. بمعنى أن
الإعلام لم يعد حكرا على المؤسسات الإعلامية الكلاسيكية حيث دخل
متعاملون جدد في مجال إنتاج الإعلام، وتخزينه، وتوزيعه، لم تكن لهم
علاقة سابقة بوسائل الإعلام الكلاسيكية. لقد أنجر عن هذا التغيير أمرين
أساسيين: إن القيمة التبادلية للإعلام تسعى لتطغى على قيمته
الاستخدامية في ظل تحول البنية الاقتصادية للمؤسسة المنتجة للإعلام
والقائمة على الطلب وليس على العرض، أي خلافا للمنطق الذي كان يستند
إليه اقتصاد وسائل الإعلام في منتصف القرن الماضي والقائم على مبدأ
العرض. كما أصبح الإعلام والمعلومات مادة لتراكم رأسمال في عصر
العولمة.
إن عدد المنتمين لحقل
الإعلام والاتصال في تزايد مستمر حيث تجاوز رجال الصحافة والعلاقات
العامة. لقد انظم إليهم جيش من الفنيين والخبراء والمختصين في تجميع
المعلومات وفي تخزينها، و حفظها، وبثها، وإعادة إنتاجها. وهذا ما يطرح
قضايا أخلاقية وأدبية وقانونية في ممارسة الإعلام والاتصال بدأت تشكل
هاجسا أساسيا لدى لسلطات العمومية وسط رجال القضاء ولدى الجمعيات
المهنية.
الفرضية التاسعة: الحقيقة والحرية في مجال الإعلام
كان الاعتقاد السائد في
القرن الماضي يتمثل في أن حرية الصحافة تساوي الحقيقة، وتعزز الحق في
الإعلام والاتصال، لكن التحولات التي عاشها عالم الإعلام والاتصال في
عصر العولمة تدعونا لمراجعة هذا الاعتقاد. فحرية الإعلام لم تعد بريئة
من عمليات التضليل والتعتيم والتحايل على الحقيقة. إن الأمر لا يقتصر
على بعض الحالات التي وصفت بأنها تجاوزات أخلاقية ومهنية وسياسية في
تغطية بعض الأحداث، مثل أحداث تميشورا برومانيا. لقد أصبح هذا التضليل
جزءا أساسيا مكونا لبعض المفاهيم والمصطلحات الإعلامية التي تكتسي
طابعا تقنيا على الصعيد النظري وتعطي مشروعية لممارسة الإعلامية التي
تقف في الحد الفاصل بين الحقيقة والزيف، مثل:
To
Make in the Media
و تعطي " للواقع الإعلامي" بعدا أخرا يتمثل في
إعادة ترتيب عناصر الحدث بغية إخراجها إعلاميا ( 7) .إن
السمة التي تميز الإعلام في عصر العولمة هو هلامية الحاجز بين الواقع
والخيال على الصعيد المفهومي أو الواقعي وذلك من خلال استشراء الصور
الافتراضية أو الاعتبارية و المونتاج الرقمي للصور التلفزيونية وتأثيث
التواصل البصري بالصور الرقمية التي أقل ما يقل عنها أنها لا تملك نسخة
أصلية لها. فهي صورة ونسخة عن الصورة في الوقت ذاته.
إن رفع سقف حرية
الإعلام لا يؤدي بالضرورة إلى رفع سقف ممارسة الحق في الإعلام. الكثير
من المهتمين بتطورات تكنولوجية الاتصال التي زادت في كمية الأخبار
والمعلومات يؤكدون على أن أكبر خطر يداهم ممارسة الإعلام يتمثل في غياب
أو تغييب المصدر. هذا الأمر لا يشجع الحق في الإعلام بتاتا بل يميعه
لأنه يسمح بالتأكيد عمليا على الحق في التضليل: فهل يمكن الجزم بأن
الجمهور يتمتع فعلا بحقه في الإعلام في مطلع الألفية الحالية إذا كان
لا يعرف مصدر الأخبار، ومنتج المواد الإعلامية أو أنه لا يملك الأدوات
التي تسمح له بمعرفة ذلك.
كانت الحجة المستخدمة
لإثبات غياب الحرية منذ العشرينيات من القرن الماضي تتمثل في حرمان
الجمهور من حرية الاختيار. فلا حرية بدون اختيار الجمهور الواعي ما
يشاهد وما يقرأه وما يستمع إليه. وقد تصدى الباحث الأمريكي هربرت شيلر
في كتابه"
The Mind Managers
" سنة 1974 لتفكيك ما يسميها بأسطورة " الاختيار". لكن اتضح بأن
الاختيار، بصرف النظر عن تباين وجهات النظر حوله، لا قيمة له إذا لم
تعرف من يقول ماذا حقيقة.
الفرضية العاشرة: التفاوت بين الممارسة الإعلامية والتشريعات
القانونية.
إن ممارسة الإعلام في
عصر العولمة قد أحدث تغييرا واضحا في الآليات والمصادر التي كانت تقوم
في أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين بمراقبة المضامين الإعلامية
المتداولة وقلصت من هامشها. فخلال هذه الفترة كانت الأداة التشريعية
تتزامن مع الممارسة وفي بعض الأحيان تسبقها من باب الوقاية
لقد أصبحت
الأداة التشريعية تلهث للحاق بالممارسة الإعلامية قصد تقنينها. لقد
أصبح بإمكان أي شخص أن يصدر صحيفة في شبكة الانترنيت بدون الالتزام
بقوانين النشر سواء تلك التي تنص على التصريح أو الترخيص، بل أن هذه
القوانين أصبحت عتيقة أو قليلة الجدوى. كما أصبح بإمكان أي شخص أن يبث
برامج إذاعية عبر شبكة الانترنيت أو يؤسس دار لنشر الكتب الإلكترونية
والأغنية عبر الشبكة وغيرها. إن رجال القضاء مازالوا يفكرون في الطرق
المسدودة التي وصلت إليها الممارسة الإعلامية في مجال الضمان القانوني
لحق الرد في شبكة الانترنيت، والمقاضاة في مجال الجرائم الناجمة عن
النشر وجنحه.
د. نصر الدين لعياضي